الصين والمحكمة الجنائية- توازن القوى في الشرق الأوسط

أعلنت الصين يوم الجمعة، الموافق 22 نوفمبر/تشرين الثاني، عن أملها في أن تحافظ المحكمة الجنائية الدولية على "موقف يتسم بالموضوعية والعدل". جاء هذا التصريح عقب إصدار المحكمة مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يوآف غالانت.
صرح بذلك لين جيان، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية، خلال مؤتمر صحفي دوري، وأكد على أن "الصين تتطلع إلى أن تمارس المحكمة الجنائية الدولية صلاحياتها وفقًا للقانون وبحيادية تامة"، وذلك حسب ما نقلته وكالة فرانس برس.
وكانت المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت يوم الخميس الموافق 21 نوفمبر/تشرين الثاني، أوامر بالقبض على كل من نتنياهو، وغالانت، بالإضافة إلى محمد دياب إبراهيم المصري، المعروف بـ محمد الضيف، وهو قيادي بارز في حركة حماس الفلسطينية. وقد وجهت المحكمة لهم اتهامات تتعلق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
أوضح القضاة في قرارهم الصادر بشأن أوامر الاعتقال، أن هناك أسبابًا جوهرية للاعتقاد بأن نتنياهو وغالانت يتحملان المسؤولية الجنائية عن أفعال مشينة، بما في ذلك القتل والاضطهاد، فضلاً عن استخدام التجويع كسلاح حرب، وذلك في إطار "هجوم واسع النطاق وممنهج ضد السكان المدنيين في قطاع غزة".
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الصين لم تتبنى الموقف الأمريكي المندد بمذكرات التوقيف، والذي عبر عنه الرئيس جو بايدن بوصفه القرار بأنه "شائن". هذا الحياد الصيني يثير الدهشة والاستغراب، خاصةً بالنظر إلى أن الفريق الآخر يرى في بكين حليفًا قويًا له في مختلف الصراعات بمنطقة الشرق الأوسط.
لا سيما إيران، التي تخوض حربًا فعلية مع تل أبيب، والتي تفجرت شرارتها بعد عملية طوفان الأقصى، معتمدةً إستراتيجية الضرب عبر وكلائها في المنطقة. وتشير بعض التحليلات إلى أن الحرب قادمة لا محالة نحو طهران.
على صعيد آخر، لم يشهد العالم موقفًا واضحًا وحازمًا من الصين تجاه الحرب المشتعلة في الشرق الأوسط، حيث تكتفي بكين بالدعوة إلى ضبط النفس وتجنب الانزلاق نحو حرب واسعة النطاق. ويختلف هذا الموقف بشكل ملحوظ عن موقفها من الحرب الدائرة في أوكرانيا، حيث عززت الصين علاقاتها مع موسكو، وقامت بتفعيل الاتفاقيات المبرمة بين البلدين، خاصة فيما يتعلق باتفاق الغاز المسال الطبيعي الروسي، متجاهلةً بذلك العقوبات الغربية والأممية المفروضة على روسيا.
في الآونة الأخيرة، تصاعدت الدعوات الروسية الصينية لتعزيز التعاون المشترك بين البلدين، وتجاوزت العلاقة مجرد صداقة عابرة، لتطالب بضرورة إحداث تغيير جذري في النظام الدولي القائم، والذي يتسم بنظام أحادي القطب تهيمن عليه القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
أكدت بكين بوضوح أن واشنطن لن تغير من مشروعها المعادي تجاهها، حتى بعد فوز الحزب الجمهوري في الانتخابات وإزاحة الحزب الديمقراطي الذي تبنى سياسة "احتواء" الصين. وقد تجسد هذا الأمر في عدد من التعيينات الجديدة لإدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب، والتي ضمت شخصيات معروفة بعدائها الشديد لنهج الصين وسياساتها على الصعيد العالمي.
إن العمل الدؤوب على تغيير النظام الدولي القائم لا يقتصر فقط على إعادة رسم الخرائط والنفوذ، بل يمتد ليشمل زعزعة التأثيرات الغربية في مختلف المؤسسات الدولية. ومن هذا المنطلق، تجد الصين وروسيا في استخدام حق "الفيتو" في مجلس الأمن ذريعة لإفشال المشاريع الغربية التي يتم طرحها وتتناول القضايا الساخنة في العالم. أما بالنسبة لقرار المحكمة الجنائية الدولية، فقد رأت فيه الصين وسيلة سهلة لتقويض الهيمنة الغربية، خاصة وأن المستهدف هذه المرة هو زعيم دولة يتموقع في المعسكر الغربي.
فإسرائيل، منذ نشأتها، تعتبر "ابنة" الحضارة الأنغلوساكسونية، بدءًا من بريطانيا التي أسستها في "وعد بلفور"، وصولًا إلى الولايات المتحدة التي تولت المهام عن لندن بعد الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا. وصحيح أنه لا توجد مصلحة مباشرة لبكين في معاداة تل أبيب، حيث تجمعهما مصالح مشتركة وتبادلات اقتصادية وتكنولوجية، بالإضافة إلى عدم وجود أي عقدة أيديولوجية بين البلدين، باستثناء بعض التحفظات الأمريكية فيما يخص اعتماد الشركات الصينية لتطوير المرافق الحيوية الإسرائيلية، وهو الأمر الذي كان سبب خلاف بين واشنطن وتل أبيب في وقت سابق.
لا تستطيع بكين أن تتخذ موقفًا مؤيدًا لقرار المحكمة الجنائية الدولية، لأن ذلك سيعرضها لانتقادات حادة في مواقفها الخارجية، خاصة وأنها رفضت القرار الصادر بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكانت المحكمة نفسها قد أصدرت في مارس/آذار من عام 2023، أمرًا باعتقال الرئيس الروسي بتهمة ارتكاب جرائم حرب تتعلق بترحيل أطفال و"نقلهم بصورة غير قانونية" من أوكرانيا، وفقًا لما صرح به رئيس المحكمة الجنائية الدولية، بيوتر هوفمانسكي.
إن ازدواجية المعايير بشأن قرارات المحكمة الجنائية الدولية هو ما يميز إدارة بايدن، التي رحبت به في عام 2023، ثم نددت به في عام 2024، الأمر الذي يقوض ثقة الرأي العام الدولي في دورها كشرطي دولي، وهي التي حاولت جاهدة إعطاء صورة شفافة للعالم، بأنها تنشر قيم الديمقراطية، وتفرض العدالة في مختلف أنحاء العالم.
لهذا السبب، اتخذت الصين موقفًا موحدًا تجاه قرارات المحكمة الجنائية الدولية، سواء كانت صادرة بحق بوتين أو نتنياهو، في إطار سياسة دبلوماسية تسعى من خلالها لتصوير نفسها على أنها لا تتبنى معايير مزدوجة تجاه القضايا العالمية.
أدركت بكين جيدًا كيف "تُؤكل الكتف" في ظلّ النظام العالمي الذي تسعى لتغييره، فبدلًا من الاعتماد على سياسة حلفائها، روسيا وإيران وكوريا الشمالية، في الصدام العسكري المباشر، لجأت الصين إلى سياسة المواجهة "الناعمة" داخل المؤسسات الدولية، وذلك في محاولة لسحب بساط "التأثير" الأمريكي في تلك المؤسسات، وتجريدها من الدور القيادي الذي برزت به على الساحة الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1991.
لقد طال قرار المحكمة الجنائية الدولية كلًا من نتنياهو وغالانت؛ بسبب أفعالهم الإجرامية بحق أهل غزة. ولكن الأهم من عدم إمكانية تنفيذ القرار، هو الانقسام العميق الذي أحدثه، والذي تجسد في الشرخ الواضح بين مواقف الدول الغربية. فسرعان ما بادرت دول أوروبية بارزة وشخصيات أممية ومنظمات حقوقية إلى تبني قرار المحكمة بإصدار مذكرتي الاعتقال، وكانت هولندا في طليعة الدول التي عبرت عن تأييدها واستعدادها لتنفيذ القرار، وكذلك كان موقف أغلبية دول الاتحاد الأوروبي، الذي أكد ممثله الأعلى للشؤون الخارجية، جوزيب بوريل، على أن قرار المحكمة ملزم ويجب احترامه.
إن السياسة الصينية تجاه الولايات المتحدة، ما هي إلا استنساخ لتلك السياسة الغربية التي اتبعتها مع المعسكر السوفياتي خلال فترة الحرب الباردة، حيث تجنبت العمل العسكري المباشر، واعتمدت بدلًا من ذلك على تفكيك النسيج الغربي بهدف إضعافه.
إن ما صرح به السيناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، بأنه سيقدم تشريعًا تحذيريًا لدول أخرى، مؤكدًا على أنها ستتحمل عواقب وخيمة من الولايات المتحدة في حال مساعدتها للمحكمة الجنائية الدولية في قرارها ضد إسرائيل، لدليل قاطع على حجم الضرر الذي سيلحق بهذا الحلف المتين. فهل سيشهد العالم على سقوط مدوٍّ جديد للمعسكر الغربي بضربات قاصمة من مؤسساته التي أسسها بنفسه وفرض الهيمنة المطلقة عليها؟